الجِدّة تعني أن يكون النص جديداً مبتكراً، غير مألوف. وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون المحتوى جديداً غير مألوف، لكن المقصود هو التأليف الجديد والتصوير الابتكاري، والعرض غير المألوف لقضية قد تكون مألوفة.
والإنسان بطبيعته يمل المألوف لما فيه من الرتابة، وينجذب إلى الطريف (الجديد) لما فيه من الغرابة. وهذا مجمع عليه. فكلما كان النص الأدبي مفعماً بالابتكار والمفاجآت التي تنكشف للمتلقي،كلّما تفاعل مع النص وكانت قيمة الإبداع فيه أعلى.
وكما أن النص الأدبي الواضح جداً، والصورة المألوفة التي اعتادها الناس مملة تبعث السأم، فإن النص المبهم المغلق والغموض في التصوير واعتساف الغريب منفّر يجعل النص كومة من الصخور وربما الأشواك.
وأعتقد أن السر في ذلك منوط بشهوةٍ فطرها الله تعالى في عقل الإنسان، كما فطر في جسده شهوات. وهذه الشهوة هي المعرفة، فالعقل يلتذ بإعماله في المجهول وبلوغه المعرفة، فيلتذ بملاحظة واستنباط واكتشاف العلاقات بين الأشكال المختلفة وكذلك الألفاظ والعبارات والصور الفنية، وبقدر إعمال العقل في النص وبقدر ما يستخرج من مكنوناته تكون اللذة والإمتاع. فالنص المعروف والتأليف المألوف سلفاً يخمل العقل فيمله، والنص المغلق يعجز العقل فيمقته. وكلاهما منفر؛ لأنه لا مجال لإعمال العقل فيهما.
عندما يتعرض الإنسان لأي تجربه جديدة – مثلاً: سماع أنشودة، مشاهدة برنامج، فيلم، أو حتى أكلة جديدة، أو لباس جديد.. وغيرها – قد لا يروقه هذا الشيء لأول تلقي، لأن نسبة الغموض وعدم الألفة قد تكون عالية إلى حد عدم الارتياح أو النفور من هذا الموضوع. فإذا ما تكرر التلقي مرة ثانية وثالثة، يقل عامل الغموض ويزداد عامل الألفة إلى الحد الذي يستطيع المتلقي أن يتفاعل ويستمتع بهذا الموضوع. ثم مع تكرار التلقي وقلة عامل الغموض وزيادة عامل الألفة أكثر يصل تفاعل المتلقي واستمتاعه بالموضوع إلى الحد الأقصى الذي بعده يبدأ هذا التفاعل والاستمتاع بالتناقص مع استمرار التلقي. إلى الحد الذي يبلغ فيه درجة الإملال.
وهذا سر من أسرار القرآن الكريم ووجه من وجوه إعجازه، وهو أنه مع ما فيه من تيسير للذكر، من تلاوة، وتعلم، وتدبر، وحفظ، قال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) مع ذلك لا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد، فهو بحر واسع يغرف منه كلٌّ سعة وعائه. ولهذا لا يمل منه الإنسان مهما قرأ ومهما سمع.