النص الأدبي ضرب من الكلام، والأسلوب الأدبي ضرب من الأساليب التي تؤلف بها النصوص، ولكنه يتميز "بالصورة الأدبية التي تميزه كفن تصويري"(1 )، "والجمال أبرز صفاته، وأظهر مميزاته، ومنشأ جماله ما فيه من خيال رائع، وتصوير دقيق"(2 )، فعندما ينظم الأديب الألفاظ ليعبر عن تجربته الشعورية إنما يرسم صورة لواقع التجربة التي عاشها في مخيلة المتلقي بإيقاعها الحقيقي فيعيش نفس الواقع وتنبعث فيه نفس مشاعر وعواطف الأديب.
والتطابق هنا لا يعني محاكاة الواقع بالمفهوم الأفلاطوني الذي أحيته الكلاسيكية في القرنين الخامس والسادس عشر الميلادي، لكنه يعني تصوير الواقع الذي يستبصره الأديب ببصره الفني الذي يستشف ما وراء الكليات والظواهر؛ فيجسد لنا صورة الواقع المنعكسة على مرآة وجدانه. فالصورة الأدبية إذاً هي تصور الأديب الذاتي للواقع الذي يعيشه.
ويبلغ تأثير النص الأدبي حد السحر عندما ينسجم إيقاعه الموسيقي الناتج عن نغمة اللفظ وتركيب العبارة، مع إيقاعه التصويري الناتج عن نغمة المعنى وظلال الألفاظ. ويتفاضل الأدباء في المقدرة على إتقان هذا الانسجام وإجادة رسم هذه الصورة وعبقرية ضبط الإيقاع الموسيقي وتطابقهما مع الواقع. وأعتقد أن هذا ما عناه الإمام الجرجاني مؤسس علم البلاغة وهو يضع نظريته في النظم بقوله: "وأما نظمُ الكلمِ فليسَ الأَمرُ فيه كذَلك لأنك تَقْتضي في نظمِها آثارَ المعاني وتُرتَّبُها على حسبِ ترتيبِ المعاني في النَّفس . فهو إذاً نظمٌ يعتبرُ فيه حالُ المنظوم بعضهُ معَ بعضٍ وليسَ هو النَّظم الذي معناهُ ضَمُّ الشَيءِ إلى الشّيءِ كيف جاءَ واتَّفق . وكذلك كانَ عندَهُم نظيراً للنَّسجِ والتّأليفِ والصياغةِ والبناءِ والوَشْيِ والتّحبير وما أشبه ذلك مما يوجبُ اعتبارَ الأجزاءِ بعضِها معَ بعضٍ حتىّ يكونَ لوضعِ كلٍّ حيثُ وَضعُ علّةٍ تَقْتضي كونَه هناك وحتى لو وُضعَ في مكانٍ غيرِه لم يَصحَّ
والفائدةُ في معرفة هذا الفرقِ أنَّك إذا عرفتَه عرفتَ أنْ ليس الغرضُ بنظمِ الكلِم أن توالَتْ ألفاظُها في النُّطق بل أن تناسَقتْ دلالتُها وتلاقتْ مَعانيها على الوجهِ الذي اقتضاهُ العقلُ. وكيف يُتَصورُ أن يُقصَدَ به إلى توالي الألفاظ في النُّطق بعد أن ثبتَ أنّهُ نظمٌ يُعتبرُ فيه حالُ المنظوم بعضِه معَ بعضٍ وأنه نظيرُ الصَّياغةِ والتَّحْبِير والتَّفْويفِ والنَّقشِ وكلَّ ما يُقصد به التَّصويرُ"( 3).
ومما سبق نعلم أنه ينبغي على الأديب الإلمام الكامل بمقومات الكتابة والتمكن من أدواتها وأساليبها؛ يحثه شعوره بمسئوليته تجاه مجتمعه الذي فتح له سمعه وبصره وفؤاده.
--------
(1 ) النقد والنقاد المعاصرون، محمد مندور.
(2 ) البلاغة الواضحة، على الجارم ومصطفى أمين.
(3 ) دلائل الإعجاز، عبدا لقاهر الجرجاني.