اليهود في البلاد الإسلامية
الجوانب المتعددة لأوضاع اليهود في ظل الحضارة العربية الإسلامية تشير بوضوح إلى الحقيقة القائلة إنهم كانوا جزءاً عضوياً من الكل الحضاري.
وقد أتاح هذا الموقف التفاعل المتبادل بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمعات الإسلامية المختلفة، باعتبار ذلك نموذجا للحوار الثقافى داخل إطار الحضارة الواحدة. ومن الثابت تاريخيا أن اليهود في ظل الحضارة العربية الإسلامية لم يعيشوا في جيتو اجتماعي، أو سكني، أو حرفي، أو ثقافي: وهو ما أتاح لهم أن يؤثروا في المجتمعات الإسلامية ويتأثروا بها.
ومنذ فتح المسلمون المنطقة الواقعة على الشواطىء الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط، وعلى شواطىء البحر الأحمر وساحل الخليج العربي, بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الجماعات اليهودية في تلك المناطق على كل المستويات. ونتيجة للموقف الذي اتخذه المسلمون تجاههم, تمكن اليهود من تنظيم جماعاتهم بشكل مستقل وصار لهم رئيس يتولى أمور الطائفة. ويذكر بعض المؤرخين أن الخليفة عمر بن الخطاب منح رئيس اليهود في العراق لقب «رأس الجالوت» وجعل له سلطة إدارة شئون اليهود في الدولة الإسلامية.
اليهود في الأندلس
كان الفتح الإسلامي لمصر والأندلس فاتحة خير بالنسبة لليهود، فقد كانوا أقلية منبوذة مضطهدة تحت حكم الفيزيقوط في إسبانيا قبل الفتح، كما كانوا أقلية منبوذة أيضاً تحت الحكم البيزنطي في مصر. وبعد الفتح تحسنت أحوالهم كثيراً.
ويصدق هذا الكلام, بشكل عام, على اليهود في العالم الإسلامي كله. فالثابت تاريخياً أنه في غضون القرون الثلاثة الأولى بعد الإسلام جاءت جماعات يهودية كثيرة لتسكن المنطقة العربية لأسباب تتعلق بالمعاملة القانونية والسياسية، التي عوملوا بها من ناحية, وبسبب إمكاناتها وموقعها في عالم ذلك الزمان من ناحية أخرى. وقد استقر منهم عدد كبير في مصر. ومن الأمور المثيرة للانتباه في هذا الصدد أن عدداً كبيراً من يهود فلسطين آنذاك قد هاجروا من فلسطين إلى مصر هربا من «... المجرمين ذوي الشعر الرمادي...». لقد كان موقف الإسلام من «الآخر الديني» وراء هذه الظاهرة إذ إن التسهيلات التي وفرتها البلاد الإسلامية؛ باتساعها الجغرافي الشاسع، وإمكاناتها الاقتصادية الهائلة، والأجناس والثقافات المتنوعة التي ضمتها في رحابها, كما وفرت فرصا لم يسبق لها مثيل للمشاركة الاجتماعية والتجارية والثقافية من ناحية، كما تقبلهم المسلمون باعتبارهم من رعايا الدولة الإسلامية من ناحية أخرى. وكان التفاعل على جميع المستويات بين الجانبين. وكان نتاج هذا الموقف أن مارس اليهود حياتهم باعتبارهم من رعايا الدولة, لا باعتبارهم غرباء, بحيث استطاع علماؤهم أن ينتجوا الفكر الديني الذي أعاد الحيوية إلى الديانة اليهودية بعد طول ركود، وبالشكل الذي جعل المتخصصين يطلقون على هذه الفترة من تاريخ الفكر الديني اليهودي في المنطقة العربية اسم «العصر الجاؤوني» أو «عصر الجاؤونيم»، أي العباقرة والمجددين بفعل تأثير الحيوية الثقافية والفكرية التي اتسمت بها البيئة الفكرية في العالم الإسلامي عامة, والعراق خاصة, وطوال تلك الفترة أخذ المفكرون اليهود يتجهون إلى التعمق في الأمور الفلسفية لاسيما فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية. ويرى كثير من الباحثين أن السبب في هذا كان راجعا إلى تأثير المفكرين المسلمين، وإطلاع اليهود على النتاج الفكري العربي الغزير في مجال الدين, والأدب, والفلسفة، بفضل الحوار الثقافي الذي تجلى في كثرة مجالس الأدب والفكر في قصور الخلفاء والأمراء. ومن ناحية أخرى, كانت نشأة الفرق المذهبية الإسلامية، التي كانت بدورها نتاجا لجو الحوار والجدل الفكري والثقافي، وراء ظهور بعض الفرق المذهبية اليهودية, وتطور الفكر الديني لدى البعض الآخر.
ومن ناحية أخرى, فإن البيئة الفكرية والعلمية التي تميزت بالخصوبة والحيوية, والتي عرفها العالم الإسلامى بداية من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، واستمرت عدة قرون بعد ذلك ,قد تركت آثارها الإيجابية على النتاج الفكري الدينى لليهود في شتى أرجاء العالم الإسلامي. ولدينا مثالان بارزان على التأثير الإسلامي في ميدان التفسير والشريعة اليهودية نفسها هما: «سعديا سعيد بن يوسف الفيومي» المصري الأصل و«موسى بن ميمون» الأندلسي الأصل.
سعديا الفيومي
وقد نشأ سعديا الفيومي في مدينة الفيوم بمصر, وكان مولده بها سنة 882 ميلادية وامتدت حياته حوالي ستين سنة. ويرجح كثير من الباحثين أن يكون سعديا الفيومي قد درس العلوم الإسلامية إلى جانب اللغة العربية، فضلا عن التراث الديني اليهودي الذي استوعبه جيدا. والدليل على هذا أن سعديا الفيومي كتب الكثير من مؤلفاته باللغة العربية، وإن كان بعضها قد كتب بحروف عبرية اصطلح الباحثون حديثا على تسميتها «اليهودية العربية». وفي تصورنا أن اللغة العربية التي استخدمها اليهود آنذاك كانت واحدة من تجليات الحقيقة القائلة إن اليهود كانوا جزءا عضويا في محيط الثقافة العربية الواسع، ومن ثم فإنهم تخلوا عن اللغة الآرامية واللغة العبرية، واتخذوا اللغة العربية لغة للكتابة والإبداع الأدبي والفكري. ومن الواضح أن اللغة العربية كانت بالنسبة لهم لغة الحياة اليومية ولغة العلم والثقافة على حد سواء، ولذلك كان لابد لمن يريد لكتابته الانتشار أن يكتب باللغة العربية. أما اليهودية العربية, فكانت مرتبطة بتراث الدين اليهودي إلى حد بعيد.
ومن الثابت أن «سعديا الفيومي» غادر مصر صوب بغداد عن طريق فلسطين، حيث قابل المؤرخ المسلم والمفسر ابن كثير. ومن بلاد الشام توجه إلى العراق، حيث كان النزاع محتدما بين القرائين والربانيين. وعلى الرغم من اتساع شقة الخلاف بينهم لم يتدخل الخليفة. ولما كان سعديا الفيومي من اليهود الربانيين فقد آل على نفسه أن يدافع عن مذهبهم في مواجهة هجوم القرائين، مستخدما منهج المتكلمين المسلمين, كما كان تأثير أعمال علماء اللغة العرب عليه واضحا من ناحية ثانية. وقد اتضح هذا التأثير في المقدمة التي كتبها لكتابه الذي يحمل عنوان «الشعر العبراني» والذي كتبه بالعربية.
وقد عمل سعديا على ترجمة أسفار العهد القديم إلى اللغة العربية لخدمة اليهود في العالم العربى, والذين لم يكن أغلبهم يعرف العبرية أو الآرامية. وعكست المقدمات التي كتبها لهذه الترجمات مدى الأثر الإسلامي في فكره ومعلوماته. وقد تأثر سعديا أيضا بعلم الأخلاق لدى المعتزلة المسلمين. ولأن الرجل عاش في فترة شهدت تراكما كميا هائلا وتحولا نوعيا في نتاج علم التفسير عند المسلمين, وكان شطراً كبيراً من هذا النتاج قائماً على قواعد النحو والمنطق، فإن الدارسين المتخصصين يلمسون أثر هذا بوضوح في كتاباته «... وليس هذا فحسب, بل إنه بفحص المصادر الإسلامية أيضاً يمكن تتمة أجزاء الجنيزا الناقصة بسبب الطمس والفراغات الموجودة في وثائق الجنيزا ...». إن اليهود أتباع دين وليسوا مجموعة عرقية أو قومية، وهو ما يعني أيضا أن مفكريهم حتى الذين تفرغوا للأمور الدينية كانوا أبناء بيتهم شأنهم في ذلك شأن المسلمين والنصارى. ومن ناحية أخرى لم يكن سعديا الفيومي مثلا وحيدا أو فلتة شاذة بين اليهود آنذاك، ولكنه كان مثلا متكررا حسبما تشهد المصادر التاريخية والتراث الذي وصلنا من تلك العصور بشكل عام.
موسى بن ميمون
ومن الأمثلة البارزة على ما ذكرناه الطبيب والفيلسوف اليهودى «موسى بن ميمون» الذي ولد بقرطبة في بلاد الأندلس سنة 1135م، وعاش حياة حافلة بين الأندلس والمغرب وفلسطين ومصر التي مات بها سنة 605 هجرية (1204م) ودفن بالقرب من بحيرة طبرية في فلسطين حسب وصيته. ويرى الباحثون اليهود الربانيون أن الرجل كان «... الشخصية الفكرية البارزة في تاريخ الفكر اليهودي في العصور الوسطى....» وكان ابن ميمون قد اضطر إلى إعلان إسلامه.وعندما لاحت الفرصة أمام ابن ميمون للهروب هرب سنة 1148م، وبعد فترة من التجوال جاء إلى مصر سنة 1165 م، أي في السنوات الأخيرة من عمر الدولة الفاطمية.
وفي الفسطاط أفاد من ثروة أخيه ليتفرغ لدراسة الشرائع اليهودية. وعاش في الفسطاط التي كانت لاتزال العاصمة الحقيقية لمصر، على حين كانت القاهرة لاتزال مقر الحكم وعندما سقطت الدولة الفاطمية, صار صلاح الدين الأيوبي صاحب السلطة في مصر. وتم تعيين ابن ميمون طبيبا في البلاط, وسمح له السلطان بالرجوع الى اليهودية وقرر له القاضي الفاضل، وزير صلاح الدين، راتبا يعيش منه «... فكان يشارك الأطباء, ولا ينفرد برأيه لقلة مشاركته...»، ويقول ابن العبري إنه كان عارفا بشريعة اليهود, عارفا أسرارها وصنف شرحا للتلمود, كما صنف كتابا في شريعة اليهود سماه دلالة الحائرين أو «الدلالة»، وكان بعض اليهود يرونه جيدا على حين كان البعض الآخر يرونه سيئا، بل إن بعض اليهود في المناطق التي احتلها الصليبيون، مثل أنطاكية وطرابلس كانوا يكفرون موسى بن ميمون بسبب هذا الكتاب. ومن الواضح أن تأثير هذا الكتاب على اليهود الربانيين في مصر كان عميقا لأن المقريزى (عاش في القرن الخامس عشر الميلادى) كتب: «...ولذلك لما نبغ فيهم موسى بن ميمون القرطبى عولوا على رأيه, وعملوا بما في كتاب الدلالة, وغيره من كتبه, وهم على رأيه إلى زماننا...».
وفي كتاباته يكشف موسى بن ميمون عن مدى تأثير الفكر الإسلامى مرة أخرى على الفكر الدينى اليهودي، فقد كان عربي اللسان بطبيعة الحال, ومن الواضح في أعماله أنه كان متأثرا بعلم التوحيد وعلم الكلام عند المسلمين، وهو ما انعكس على مؤلفاته عن العقائد اليهودية التي وردت في شروحه للجزء الرابع من المشناه مثلا. كما أنه تأثر بالموقف الوسطي للأشاعرة
ومثلما يصدق هذا على موسى بن ميمون وسعديا الفيومي من قبله، يصدق على جميع المفكرين والأطباء الشعراء اليهود الذين عاشوا في ظل الحضارة العربية الإسلامية، فقد أتاحت لهم الفرصة لإظهار مواهبهم في خدمة الجماعة اليهودية من ناحية، وخدمة المجتمعات الأوسع في بلدان العالم الإسلامي من ناحية أخرى.
وتنسحب هذه الحقيقة أيضاً على اليهود في كل المجتمعات الإسلامية في تلك العصور. وإذا نظرنا إلى الحالة الأندلسية، مثلا, وجدنا هذه الحقيقة واضحة جلية، حيث عاش اليهود باعتبارهم رعايا داخل الإطار العام للبيئة الأندلسية، وكانت هناك مراكز للفكر الديني اليهودي في المدن الأندلسية الكبرى. ولعل التأثير العربي على الشعر اليهودي في تلك البلاد آنذاك يكشف عن هذه الحقيقة بقدر ما يجسدها.
والخلاصة أن التفاعل بين اليهود والمسلمين في إطار الحضارة العربية الإسلامية كان تفاعل حياة تلقائيا بين رعايا يعيشون في إطار سياسي واحد على أرض واحدة دون تدخل من طرف خارجي يزعم لنفسه حق تمثيل فئة دون الفئات الأخرى، ويمارس هذه الوصاية القسرية على نحو ما تفعل الدولة الصهيونية الآن. ومن هنا فإن وجود هذا الكيان العنصري العدواني تسبب في الحيلولة دون التفاعل الإيجابي على أساس من التعاون الإنساني والاعتماد المتبادل بين الطرفين، مثلما كان الحال قبل ظهور الكيان الصهيوني بخصائصه العدوانية التي خلقت ذاكرة تاريخية تصطبغ بالدماء بين العرب مسلمين ومسيحيين من ناحية, وبين اليهود الذين تحتكر الدولة العنصرية العدوانية، التحدث باسمهم من ناحية أخرى.