لماذا ألح الرسول (ص) في طلب المشورة وقال للناس قبيل اتخاذ قرار الحرب "أشيروا علي أيها الناس"، وتحدث كل من أبي بكر وعمر؟ ثم تحدث المقداد وقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولم يكتف الرسول، بل ظل يكرر "أشيروا علي أيها الناس"، يريد رأي الأطراف المختلفة من المهاجرين والأنصار، خشية أن يكون لهم رأي آخر في تفسير المواقف. فتحدث سعد بن معاذ فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك … وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوا الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد، إنا لصُبر في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله: فلما سمع رسول الله ذلك سـُرّ بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. بل من كان عنده ملاحظة يبين رأيه بمبادرة منه ويشعر أنه واجب مقدس وعليه أن يدلي برأيه لمصلحة المجتمع، ويسمع له رسول الله ويغير من قراره الذي اتخذه في نفسه ليأخذ بما أشار به الحباب بن المنذر وهو أحد الجنود.
هذه الحوادث كلها تفقد قيمتها ومعناها عندنا الآن لأننا نغفل عن شيء أساسي وهو قانون الله وقانون الوجود الإنساني وهو أن الإنسان يعطي أفضل ما عنده بالإقناع وليس بالإكراه والتجاهل وإشعاره بأنه آلة مسلوبة الإرادة. وأفضل ما نزل من السماء هو التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان على الإنسان الـنـبوي والمسارعة في الخيرات والكف عن المنكرات. يطلب الرسول المشورة ويلح في ذلك لأنه يعلم أن هؤلاء الجنود هم الذين سيقاتلون وينبغي أن يكون القرار صادرا عنهم وليس مفروضا عليهم. وهذا الموقف هو تزكية للإنسان بينما اتخاذه آلة تدسية له. هذا هو شأن الدين في المجتمع النبوي والمجتمع الراشد. وبعد أن طلب الرسول المشورة ومبادرة المسلمين بالنصيحة لله ولرسول وللناس عامة بما يرونه السداد والرشاد، ورأى الرسول استجاباتهم الصادقة وأنهم يطرحون أراءهم بصدق وإيمان، عند ذلك استبشر رسول الله.