2- الإجماع :
انتبه المسلمون منذ خلافة أبي بكر إلى حدوث قضايا لم يوجد لها حكم صريح في هذين المصدرين فاضطروا إلى إيجاد مناهج يوظفونها في استمداد الأحكام المناسبة لما يواجهونه من قضايا. ومن أبرز المناهج التي اعتمدوها في التّشريع اعتماد الرأي المجمع عليه بعد استلهام روح الشريعة وما ترشد إليه قواعدها العامة منهجا يرقى في قوته إلى مرتبة العمل بما جاء في القرآن والسنة وهو ما اصطلح عليه بالاجماع .
إن الاجماع الذي يعد من أوّل المناهج التي استحدثها المسلمون في التّشريع كان الاعتماد عليه في التّشريع محدودا
يقول الإمامان مالك وأبي حنيفة بضرورة مراعاة جملة من المسائل عند التصدّي للتّشريع منها الاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع واعتماد القواعد الفقهية (القواعد الفقهية كثيرة لكنها في الاساس متفرعة من القواعد الخمس الكبرى التي قيل : إن الفقه كله مبني عليها ، وهي :
1-الأمور بمقاصدها ودليلها: قول النبي صلى الله عليه وسلم :« إنما الأعمال بالنيات »
2- اليقين لا يزول بالشك ودليلها :
3- المشقة تجلب التيسير{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
4- الضرر يُزال قول النبي صلى الله عليه وسلم: « لا ضرر ولا ضرار »
5- العادة مُحَكَّمة « ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن ». قال السيوطي في ( الأشباه والنظائر ) : كل ما ورد به الشرع مطلقا بلا ضابط منه ولا من اللغة يرجع فيه إلى العرف .وقال الشيخ تاج الدين السبكي : و أرجع العز بن عبد السلام الفقه كله إلى اعتبار المصالح والمفاسد ؛ بل قد يرجع الكل إلى اعتبار المصالح ؛ فإن درء المفاسد من جملتها
إذن هي مسالك في التّشريع تذهب بالاجتهاد إلى أقصى مداه. فيكون بذلك قد فهم أنّ الأحكام التّشريعية شُرّعت لمقاصد تؤدي إليها وأنها تدور معها وجودا وعدما وإن أدى ذلك إلى تخصيص النّص أو ترك ظاهره أحيانا على اعتبار أن ذلك المنهج أكثر تمثّلا وإدراكا لروح النّص وأهدافه ومراميه.
التّشريع بالاستحسان :
يرى المجتهد في ظلّ هذا المنهج أنه بتطبيق النّص على عمومه أو القياس عليه قد يوقع النّاس في ضيق وحرج أو يُفوّت مصلحة راجحة أو يؤدي إلى مفسدة واضحة حينئذ يعدل عن ذلك الحكم إلى حكم آخر يصل إليه باجتهاده ويستحسنه ومثاله : إيقاف عمر تطبيق حدّ السرقة عام المجاعة استثناء عن عموم قوله تعالى :"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" (المائدة : 38) ولقد عرّفه الفقهاء بكونه : العدول في مسألة عن حكم إقتضاه دليل شرعي إلى حكم آخر فيها لدليل شرعي آخر اقتضى هذا العدول. فهو إذن ترجيح دليل على دليل يعارضه بمرجع معتبر شرعا
- التّشريع بالمصلحة المرسلة : يجد المجتهد أمامه مسألة ليس فيها حكم ثبت بالنّص أو الاجماع أو القياس ولكنه يرى أنّ فيها أمرا مناسبا للتّشريع بناء على أنّ ذلك مصلحة مطلقة.
- التّشريع بالاستصحاب :
الاستصحاب هو الحكم عن الشيء بما كان ثابتا له أو منفيا عنه حتى يقوم الدليل على خلافه. ومن أمثلته أيضا المتهم برئ حتّى تثبت ادانته.
- التّشريع بالعرف :
العرف هو وما تعارف عليه النّاس قولا أو فعلا.يذكر أبو اسحاق الشاطبي أن بعض الأحكام تتبدّل من بلد إلى آخر حسب أعراف البلد ومنها ما يكون متبدّلا في العادة من حسن إلى قبح وبالعكس وذلك مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقيّة وغير قبيح في البلاد المغربيّة. فالحكم الشّرعي يختلف باختلاف ذلك فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة وعند أهل المغرب غير قادح.
- التّشريع بالذرائع :
الذّريعة هي التّي يتوصّل بها إلى الشّيء خيرا أو شرا والحكم بالذّريعة يقوم على أساس أنّ الوسيلة إلى المحرم محرمة والوسيلة إلى الواجب واجبة فتأخذ الوسيلة حكم الغاية. ويمثّل الفقهاء لذلك بتحريم بيع السلاح زمن الفتن
- التّشريع من خلال القواعد الفقهية :
القواعد الفقهيّة كما عرّفها الأصوليون هي أحكام عامّة وقضايا كليّة تندرج في إطارها مجموعة من الأحكام الجزئيّة.وهذه القواعد تساعد على تكوين الملكة الفقهيّة وتوضّح التصورات والنظريات القانونيّة في الفقه الاسلامي وهي في غاية الدّقة والاختصار مثل قولهم "الأمور بمقاصدها" و "اليقين لا يزول بالشك" و"الضرر العام يدفع بتحمل الضرر الخاص" و "يدفع أشد الضررين بتحمل أخفهما" و "درء المفاسد أولى من جلب المنافع" و "الضرورات تبيح المحظورات" و "المشقّة تجلب التيسير" و "الحرج مرفوع" يقول القرافي (ت 684 هـ) وهو من أعلام المالكية في مقدمة كتاب الفروق :"وهذه القواعد مهمّة في الفقه عظيمة النفع وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ... وبها تتضح مناهج الفتوى".
1 ـ ظهور علم مقاصد الشّريعة :
يرى الشّاطبي أنه باستقراء الشّريعة يتبين أنّ قصد الشارع هو حفظ مصالح العباد في الدّنيا والآخرة ودفع الضرر عنهم وهذه المصالح ثلاثة أقسام : ضروريات وحاجيات وتحسينات.
فالضروريّة : هي المصالح التي تتوقّف عليها حياة الناس و قيام المجتمع بأسره و تكون بحفظ الدّين و النّفس والعقل والنسل و المال.
الحاجيّة هي الأمور التّي يحتاج إليها النّاس لرفع الحرج والمشقة عنهم وإن عدم مراعاتها لا يتولد عنه اختلال في نظام الحياة ولكن يلحق بالناس المشقة والضيق ومن أجل ذلك شرعت الرخص في العبادات والمعاملات والعقوبات.
التحسينيّة : فهي التّي تجعل أحوال الناس تجري على مقتضى الآداب والخلق القويم. وهي بخلاف الضروريات والحاجيات لا يترتب عن التفويت فيها اختلال في نظام الحياة ولا يلحق النّاس مشقّة كالأخذ بمحاسن الأمور في العادات والمعاملات والتقرّب إلى الله بالنوافل.
وعلى أساس مراعاة هذه المصالح نشأت القواعد الفقهيّة التي ذكرناها آنفا. وبهذا العلم يكون الشّاطبي قد فتح باب التّشريع بالمصلحة على مصراعيه مؤسسا منهجا جديدا يقوم على التّفكير المقاصدي مؤسسا بذلك معقوليّة منفتحة للتّشريع الاسلامي تُمكّنه من التّحرك في إطار دائرة واسعة من الاجتهادات ومراعاة الظّروف المتجدّدة فإذا كان للعصور الماضية مقاصدها المشروطة بظروفها التّاريخية فإن المطلوب اليوم هو إعادة التفكير انطلاقا من مقدمات جديدة ومصالح معاصرة تستجيب لحاجيات الفكر الراهن وإشكالياته دون أن تضيق بها مُحكمات الشرع وثوابته.
1- التّشريع بالمصلحة :
أفرد كثير من الفقهاء التّشريع بالمصلحة عناية كبيرة فلقد أثر عن ابن عقيل الحنبلي (ت 513 هـ) في مناظرة جرت بينه وبين بعض الفقهاء قوله :"السّياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون النّاس معه أقرب إلى الصّلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرّعه الرّسول ولا نزل به الوحي" يقول ابن القيّم : "كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشّريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ( اعلام الموقعين)
وقد قيّد الفقهاء التّشريع بالمصلحة بقيود يتعيّن على المجتهد مراعاتها أهمها ألاّ يخل بهدف الشّريعة والأصول الثّابتة فيها. يقول محمد الخضر حسين :"ما كان مصلحة محضة فحكمه الاذن قطعا وما كان مفسدة محضة فحكمه النّهي بلا مراء فأمّا ما كان مصلحة من ناحية ومفسدة من ناحية أخرى فالشّارع الحكيم ينظر إلى الأرجح منهما ويفضّل الحكم على قدر الأرجحية" (25) أما في صورة مواجهة مقصدين متضاربين من مقاصد الشريعة أو أكثر يقرّر الفقهاء أنّه يتعيّن علينا أن نُضحي بمقصد أو أكثر في سبيل مقصد أعلى وأسمى منه.