التفكير النقدي

التفكير النقدي، تعريفه وأهميته
وكيف يمكن تحسين مهاراتنا فيه

من مشروع تطوير التعليم المنجز والمقرّر في مؤسسات هونغ كونغ التعليمية
بإشراف الدكتور جو لاو والدكتور جوناثان تشان

التفكير النقدي –أو التمحيصي- مكوّن جوهري لا بدّ منه لنجاح أيّ منهاج تعليمي، وهو عنصر ضروري أيضاً في تطوّر أي اقتصاد حيّ وأي مجتمع متحضّر.

خلال المقالات القادمة في هذا الباب تهدف مجلّة عالم الإبداع إلى تزويد أو تذكير قرّائها بالركائز التي ينبغي على المرء اعتبارها في عملية التفكير حتّى تكون هذه العملية تفكيراً حقيقياً تتفاعل ضمنه الحقائق وتستنبط منه النتائج الجديدة، ولا تكون ميداناً لحروب طواحين الهواء التي تستنزف جهود الأفراد والأمم وتستهلك أعمارها في سجالاتٍ وهميّة وتملأ العالم ضجيجاً وغباراً، ثمّ لا نجدُ لها نتيجةً إلاّ تعقيد المشكلات وتضييع المعالم وتصعيب التوصّل إلى النتائج.

هنالك مهارتان أساسيتان في التفكير: التفكير النقدي والتفكير الإبداعي. التفكير النقدي الصحيح هو الذي يتيح للمرء الرؤية الواضحة للأمور ومعالجتها معالجةً منطقية. والتفكير الإبداعي هو الذي يمكّن المرء من الخروج باحتمالات جديدة ومفيدة. وغني عن القول طبعاً أن كلتا المهارتين ضرورية في حل المشكلات واستنباط المعارف الجديدة.

ما التفكير النقديّ وما أهميته؟
التفكير النقدي هو المقدرة على المعالجة الذهنية الواضحة والمنطقية، ويتضمّن المقدرة على المضيّ في عمليات تفكير تأمّلي ممحّص (مراجعة Reflection) ومستقلّ. إنّ صاحب مهارات الفكر النقدي سيكون قادراً على:
- تفهّم الارتباطات المنطقية بين الأفكار
- تحديد، وإنشاء، وتقييم الحجج
- اكتشاف التناقضات والثغرات والأخطاء الشائعة في المحاكمات الفكرية
- حلّ المشكلات حلّاً منهجياً
- اكتشاف مغازي وأهميات الأفكار
- التأمل الممحّص (المراجعة Reflection) للمستندات التي تقوم عليها قناعات المرء وقيمه

اقترحت للتفكير النقدي تعريفات عديدة، ولكن يمكننا القول باطمئنان إن الوضوح Clarity والمنطقية Rationality تشكل محوراً جوهرياً مشتركاً في كل التصورات المختلفة للتفكير النقديّ.

ومن التعريفات العديدة نذكر تعريف الباحثين واتسون وكلايزر:
التفكير النقدي مركّب Composite من المواقف والمعارف والمهارات. يتضمّن هذا المركّب:
1- مواقف البحث والتمحيص التي تتضمّن مقدرة اكتشاف وجود المشكلات، وتقبّل الحاجة العامة إلى الدليل الداعم لكل ما يؤكّد على أنّه حقيقة.
2- معرفة بطبيعة الاستدلالات الصحيحة، التجريدات، والتعميمات، والتي يتمّ فيها على أساسٍ منطقي تعيين الوزن أو الدقّة لكل نوعٍ من أنواع الأدلّة.
3- مهارات في تطبيق المواقف والمهارات والاستفادة منها.

التفكير النقدي ليس مجرّد تكديس للمعلومات. وهكذا فإنّ الذاكرةٍ المغناطيسية والاطلاعٍ على الكثير من الحقائق ليست شروطاً كافيةً حتماً لإجادة المرء التفكير النقديّ. المفكّر النقديّ هو القادر على توليد النتائج ممّا يعرفه، ويعرف كيف يستفيد من المعلومات في حل المشكلات، ويعرف كيف يبحث عن المصادر الملائمة لتعليم نفسه ما ينبغي تعلّمه.

ويجب ألاّ نخلط بين التفكير النقديّ وبين ولع المرء بالجدال وغرقه في تتبع عثرات الآخرين. صحيحٌ أن مهارات التفكير النقدي يمكن استخدامها في تعرية المغالطات وطرق الاستدلال العوجاء، ولكنّنا يجب أن نتذكر أن الموضع المجدي لهذه المهارات هو في عمليات التفكير التعاونية والحوارات البنّاءة. بالتفكير النقدي يمكننا تحصيل المعارف، تحسين نظريّاتنا، وتدعيم حججنا. وبالتفكير النقدي نحسّن آليات العمل ونطوّر مؤسساتنا الاجتماعية.

يعتبر التفكير النقدي أساس العلم وأساس المجتمعات الحرة. فالعلم لا يستغني عن الاستخدام النقدي للمنطق في التجريب وفي تمحيص النظريات، والفعالية السليمة للمجتمع الحر لا تقوم من دون مواطنين قادرين على تناول شؤونهم الاجتماعية تناولاً نقدياً يضيء قراراتهم واختياراتهم ويساعد في التغلّب على الانحياز والتحامل.

لماذا ينبغي علينا تعلّم التفكير النقدي:

1- التفكير النقدي مهارةٌ عامةٌ تدخل في كل الميادين
مقدرة التفكير بوضوح وبمنطقية مطلبٌ مهمٌ في أي حقل تختار النشاط فيه. في مجالات العمل بالتعليم، أو الأبحاث، أو الماليّة، أو الإدارة، أو القانون تعتبر مهارة التفكير النقدي من أبرز مقوّمات النجاح. وتبقى مهارة التفكير بطريقة حسنة وحل المشكلات منهجياً عنصراً مهماً ومفيداً في أي مجال.

2- التفكير النقدي يزداد أهميةً في ظل اقتصاد المعرفة الذي يجتاح العالم:
يقوم ويتحرّك الاقتصاد المعرفيّ العالميّ Global Knowledge Economy بالمعلومات وبالتكنولوجيا ولا بدّ للمرء فيه من المقدرة على التعامل السريع والفعّال مع التغييرات. وفي ظل هذا الاقتصاد يتعاظم الطلب على المهارات العقلية المرنة وعلى مقدرات تحليل المعلومات ومكاملة مصادر المعلومات المتباعدة في سياق عمليات حل المشكلات. وهكذا نرى التفكير النقدي الذي تستند إليه تلك المهارات التفكيرية المنشودة يصبح مطلباً مهماً جداً في مكان العمل الحديث المتغيّر بسرعةٍ فائقة.

3- التفكير النقدي يعزّز لغة المرء ومهاراته في العرض والتقديم
يمكن للتفكير النقدي أن يحسن مهاراتنا في التعبير عن أفكارنا. ومن خلال تعلّم كيفية تحليل البنية المنطقية للنص فإنّ التفكير النقديّ يساعد أيضاً في تحسين قدرات الاستيعاب.

4- التفكير النقديّ يعزّز الإبداع
الخروج بحل إبداعي لمشكلة لا يستدعي حضور أفكارٍ جديدة وحسب، لاعتبار الإبداع إبداعاً يجب أن تكون الأفكار الجديدة نافعةً ووثيقة الاتصال بالحالة المعنيّة. يلعب التفكير النقدي دوراً حاسماً في تقييم الأفكار الجديدة، وفي انتقاء أفضلها، وفي تعديلها عند اللزوم.

5- التفكير النقدي مطلبٌ لا بدّ منه في المراجعة الذاتية
حتى يمكن للإنسان أن يحيا حياةً هادفة ويتمكن من برمجة حياته تبعاً لذلك، فإنّه يحتاج إلى تسويغ ومراجعة قيمه وقراراته. والتفكير النقدي يقدّم الأدوات اللازمة لعملية التقييم الذاتي هذه.

رغم أن معظم الناس يوافق على أهمية مهارة التفكير النقدي، فإنّنا نرى معظمهم أيضاً لا يعرف كيف يحسّن تفكيره. السبب في ذلك هو أن التفكير النقديّ مهارة تفكيرية تحتيّة Meta-Thinking Skill (تفكير في التفكير).

إنّها تتطلب تأمّلاً دقيقاً في مبادئ المحاكمة المنطقية السليمة، وبذل جهدٍ واعٍ لتجذيرها داخل الإنسان وتطبيقها في كل شؤون الحياة العملية. إنّ هذا لمطلب صعب حقاً وكثيراً ما يحتاج فتراتٍ طويلةً من التدريب.

كيف نحسّن تفكيرنا النقديّ:
يقوم التفكير النقدي الجيد على التمرّس في مجموعةٍ من مهارات التفكير. ومثل كثير من المهارات الأخرى فإنّ هذه المهارات تقوم على ثلاثة عناصر هي: النظرية Theory، والممارسة Practice، والموقف Attitude.

النظرية:
إن أردنا التفكير بطريقة صحيحة فعلينا اتّباع القواعد الصحيحة للمحاكمة العقلية. معرفة النظرية تتضمّن معرفة هذه القواعد. ومن هذه القواعد –التي تعتبر المبادئ الأساسية للتفكير النقدي- قوانين المنطق، وأساليب المحاكمة العلمية.

و إلى جانب معرفة ما ينبغي أن نقوم به، من المهمّ أيضاً معرفة ما ينبغي ألا نقوم به إذا أردنا محاكمةٍ منطقيةً سليمة. ويعني هذا ضرورة امتلاكنا معرفةً أساسية حول الأخطاء التي يقع فيها البشر. أولاً: يجب أن نعرف المغالطات الشائعة. ثانياً: يجب أن نعرف ما اكتشفه علماء النفس من التحيّزات والقصورات المتجذّرة في التفكير البشري. إنّ تفهّمنا لهذه النتائج الملموسة بالتجارب سوف يوقظ انتباهنا ويحسّن ملاحظتنا للمشكلات المحتملة.

الممارسة:
معرفة المبادئ التي يقوم عليها التمييز بين المعتلّ والسديد من المحاكمات العقلية لا تكفي. قد ندرس في غرفة الصف كيفية السباحة، ونتعلّم الجوانب النظرية الأساسية مثل وجوب ألاّ يتنفّس المرء تحت الماء، لكن ما لم نطبّق هذه المعارف النظريّة من خلال الممارسة المستمرّة فإنّ تمكّننا من السباحة في الماء فعلاً سيبقى احتمالاً بعيداً يقارب المستحيل.

على المنوال ذاته، إن أردنا أن نكون ماهرين في التفكير النقدي علينا أن نجذّر المبادئ النظرية داخلنا حتّى يمكننا تطبيقها في حياتنا اليومية. ومن الطرق المفيدة في ذلك:
- القيام بالكثير من التمارين عالية المستوى ورفيعة الجودة. لا تقتصر التمارين على التجارب والدروس الصفية بل تتضمّن أيضاً التمارين المنفّذة على هيئة نقاشات وحوارات مع أناسٍ آخرين في حياتنا اليوميّة.
- التفكّر بعمق أكبر في المبادئ التي اكتسبناها. إذ من المعروف أن الذكريات والمفاهيم يكتسبها عقل البشر من خلال إنشاء الارتباطات بين الأفكار.

المواقف:
لا تقوم مهارات التفكير النقدي الفعّالة على المعارف النظرية والممارسة وحسب. إن الممارسة المستمرّة لا يمكنها أن تحسّن هذه المهارات لم يكن لدى المرء الحافز والموقف المناسبان. ومن المواقف الشائعة وغير المجدية في تحسين تفكيرك النقديّ، المواقف التالية:
- أفضّل أن تقدّم لي الإجابات الصحيحة بدل أن أستكشفها بنفسي
- لا أحبّ إطالة التفكير في قراراتي، خصوصاً لأنني أعتمد في اتخاذها على شعوري الداخليّ وحده.
- في العادة لا أراجع مراجعةً معمّقة أخطائي الماضية
- لا أحب تعرّض نفسي للنقد

حتّى يمكن للمرء تحسين تفكيره عليه أن يدرك أهمية التفكّر في مسوّغات قناعاته وتصرّفاته. وعليه أيضاً أن يكون مقبلاً على الخوض في النقاشات، وعلى اقتراف الأخطاء، وعلى كسر العادات القديمة، وعلى التعامل مع التعقيدات اللغوية والمفاهيم المجرّدة.