حتّى لا يكون تفكيرنا حراثةً للبحر

حتّى لا يكون تفكيرنا حراثةً للبحر
فلنحذر مزالق اللغة المبهِمة

من مشروع تطوير التعليم المنجز والمقرّر في مؤسسات هونغ كونغ التعليمية الجامعيّة
بإشراف الدكتور جو لاو والدكتور جوناثان تشان

يمكن أن تعمل اللغة أو تستخدم للتضليل أو الإرباك، أو لجعل بعض الأفكار تبدو أعمق أو أثمن أو أهمّ ممّا هي عليه فعلاً. واكتشاف الأحوال التي ينجرّ عندها فكر وحوار البشر إلى هذه المزالق اللغوية هو أحد أبرز مهمّات التفكير النقديّ.

عزيزي القارئ:
في مقالة عدد نوفمبر2009 التي ابتدأنا بها سلسلة التفكير النقديّ مررنا على تعريف التفكير النقديّ وأهمّيته وركائزه وسبل تطويره. ثم افتتحنا أول موضوع رئيسٍ ضمن هذه السلسلة (تحليل المعاني) فتناولنا في العددين الماضيين (56 - 57) تفهّم المعاني الحرفية، واستخدام وتقييم التعاريف، والخلافات اللفظية والحقائقيّة، والشروط اللازمة والكافية. واختتاماً لموضوع "تحليل المعاني" سنتناول في هذه المقالة والمقالة أو المقالتين القادمتين المزالق اللغوية في كلمات وتعابير التفكير والحوار من غموض، أو تشويه، أو فراغ مضمون.

الغموض: حين تحتاج أدوات الحل إلى حل، مفردات الفهم إلى فهم
يُشار بالغامض هنا إلى المعنى غير المبين أو غير المحدّد. يمكن أن يوصف مفهومٌ أو تعبيرٌ لغوي ما بالغموض لأسبابٍ عدّة:
- الالتباس Ambiguity هو أحد هذه الأسباب الممكنة، إنّه تعدّد المعاني، أو فلنقل وقوف الكلمة أو العبارة بنا على مفارق طرق واضحة مختلفة.
- والإبهام Vagueness. ونعني بالمبهِم ذلك التعبير أو المفهوم الذي نصادف حالاتٍ محيّرةً على حدوده لا يمكننا تقرير دخولها فيه أو خروجها عنه. أو فلنقل إنه وقوف الكلمة بنا على حدودٍ متداخلةٍ مشتبهةٍ لا يمكن رسم خطٍ فاصل بينها.
- النقص: وكذلك يقال عن تعبير ما إنّه غير واضح إذا كان معناه غير مكتمل.

الالتباس
في الواقع هناك أنواع ومصادر عدّة للالتباس.

الالتباس المعجمي:
ويشير إلى كلمةٍ أو تعبير ما يحتمل في اللغة معانيَ مختلفة. مثلاً كلمة "عميق" يمكن أن تشير إلى سعة العلم أو الفكر كما إنها تشير إلى سعة الوعاء أو الوادي، وكلمة "فتيّ" يمكن أن تشير إلى حداثة سنّ المرء أو إلى صغر تجربته.

الالتباس الإشاريّ:
في حالة هذا الالتباس لا يبدو واضحاً الطرف أو الفريق المشار إليه، وينشأ هذا في كثيرٍ من الأحيان عن عدم تبيين السياق مرجعية الضمير أو اسم الصلة في العبارة. مثلاً: " هاجم سامر سميراً وما هي إلاّ لحظات حتى أخذ ينزف" ترى من الذي أصيب هنا؟ سامر أم سمير؟

وتأمل في عبارة "كل الناس مدعوون إلى الاحتفال" لا يقصد المتكلّم هنا دعوة البشر جميعاً، وإنّما يقصد مجموعةً معينة، فأيّ مجموعةٍ هي؟ نعلم طبعاً أن المتكلّم بأمثال العبارة السابقة في الأحوال العادية إنما يتكلم والزمرة المعنيّة محدّدةٌ في ذهنه.

ومن الأمثلة المهمّة على الالتباس ما نراه لدى كثير من الناس من رغبةٍ أو تساهل في إطلاع التعميمات الواسعة جداً مثل: "المشتغلون بالسياسة فاسدون". حرفياً، تعني العبارة السابقة "ليس هناك سياسي صالح" وعندما نقول لصاحب العبارة ولكنّنا نرى في الواقع أو التاريخ أمثلةً تخالف هذا الزعم فإنه يقول " لا أعني حقاً أن كلّ سياسيّ دون استثناء فاسد" وهنا نسأل من يا ترى هي المجموعة المعنيّة؟

الالتباس التركيبي أو الإعرابيّ
في هذه الحالة من الالتباس الناجم عن استخدام اللغة نرى أكثر من معنى بسبب وجود أكثر من طريقة لقراءة التركيب نحوياً أو إعرابياً. ولا يغيّر شيئاً في الأمر حقيقةُ أننا نعرف بوضوح معنى كل كلمةً مفردة في التركيب.

خذ مثلاً: "سوف نناقش العنف على التلفزيون". نحوياً، يمكن أن يعني هذا التركيب أن العنف هو موضوع مناقشةٍ تُعرضُ في برنامج تلفزيوني، ويمكن أن يعني أيضاً أن البرامج التي تقدّم العنف على التلفزيون هي موضوع النقاش.

لدى التعامل مع التراكيب اللغوية الملتبسة ينبغي سلوك كل الطرق المكنة لتوضيح المعنى. ومن هذه الطرق استقصاء كل المعاني التي يمكن أن يحملها التركيب وتبديد الالتباس بقراءة واحدة للمعنى أو للإعراب Disambiguation.

الإبهام:
يُقال عن كلمةٍ أو تركيب إنّه مبهم Vague –أوضبابيّ- إذا كانت حدوده غير دقيقة فاصلة. ويعني هذا وجود حالاتٍ لا يمكن البتُ بانطباق أو عدم انطباق الكلمة أو التركيب عليها.

مثلاً: فلنتصوّر حجرةً مغلقةً دون نوافذ أو أبواب، لا ضوء في داخلها وإنّما هي ظلمة حالكة. إذا أضأنا في هذه الغرفة مصباحاً شديد التوهّج فسوف تصبح غرفةً "مضيئة" ولكن حين نشغّل مفتاح تخفيت الإضاءة Dimmer شيئاً فشيئاً حتى ينطفئ الضوء فإن الغرفة سوف تتغير تدريجياًّ من "مضيئة" إلى "مظلمة". في عملية التغيّر هذه لا يوجد حدٌ مبينٌ تكفُّ الغرفة فور تجاوزه عن كونها مضيئة. وليس هناك حدٌ فاصل تغدو الغرفة فور تجاوزه مظلمة. إنّ صفتي "المضيئة" "والمظلمة" ليس لهما حدود انطباق واضحة في هذه الحالة، ولذلك نقول عنهما إنهما صفتان مبهمتان.

مثال آخر: عبارة " فلان طويل –أو فارع-" عبارةٌ مبهمةٌ أيضاً في بعض الحالات التي يصعب فيها تقرير اعتبار المرء طويلاً أم غير طويل. وهذه الصعوبة في تقرير انطباق صفة الطويل على الشخص لا ترجع إلى عدم معرفتنا بارتفاع قامة ذلك الشخص. نعم، قد يكون أحدنا يعرف تماماً كم يبلغ ارتفاع قامة الشخص ولكنه يبقى غير قادر على اعتباره "طويلاً" أو غير طويل، وذلك لأن معنى صفة "الطويل" أو الفارع غير محدّد بدقة. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك كلماتٌ مثل ثقيل، قاتم، جبل، ذكيّ، رخيص.

ينبغي التمييز بين الالتباس –أو التعدّد- و بين الإبهام -أو الضبابيّة-. يمكن أن تكون الكلمة مبهمةً على الرغم من أنّها غير ملتبسة. والكلمة الملتبسة ذات المعاني العديدة لا نصفها بالإبهام إن كانت المعاني العديدة المرتبطة بها محدّدة المعالم بدقّة.

الإبهام في لغة البشر ليس مرضاً كريهاً في كلّ الأحوال، ولكن..
يمكن أن تكون التعابير المبهمة ذات فائدة في حياتنا اليومية الواقعية، ففي كثير من الأحيان نجدُ أنفسنا في مواقف لا تحتاج إلى درجة دقة عالية. وكل سياق بذاته هو الذي يملي درجة الدقة المطلوبة.

ومع هذا الإقرار بواقعية الإبهام في خطاب وفكر البشر المعتاد، فإنه ينبغي الانتباه إلى مثل هذا الطرح الفاسد في موضوع الإبهام، والذي يمكن أن نصادفه كثيراً. يقول هذا الطرح:

في الواقع ليس هناك فرقٌ بين "س" و بين "ع" لأنّنا كثيراً ما نصادف حالات يكاد يستحيل علينا فيها البتُّ في كون الشيء "س" أم "ع". وتطبيقاً لهذا الطرح نجد أحدهم يقول، مثلاً: "في الواقع لا وجود لما يُدعى بالحقيقة الموضوعية ولا لما يُدعى بالباطل أو الوهم، لأن تقرير كونِ أمرٍ ما حقّاً هو أو باطلاً كثيراً ما يكون مستحيلاً".

إن القول السابق ادعاء فاسد لأنّ وجود مسائل حدودية مشتبهة بين الحق والباطل يصعب تمييزها تمييزاً حاسماً وتصنيفها في جانبٍ معيّن لا يقتضي أنّ التمييز زائف باطل. مثلاً: قد يصعب في بعض الأحيان الحكم بأن الغرفة مضئية أو مظلمة، ولكن بالرغم من ذلك يبقى موجوداً التمييز بين الغرف المظلمة والمضيئة، ونجد حالاتٍ واضحةً حاسمةً لا وجودَ فيها إلاّ للإضاءة أو للظلمة الخالصة.

ينبغي تحاشي الإبهام في الكلام قدر المستطاع إذا أراد أحدنا إنشاء حوار دقيق، فالإبهام يقلّص محتوى المعلومات الذي تحمله عباراتنا ومناقشاتنا. مثلاً، قارن بين العبارات التالية:
- إنّه مسنٌ حقاً، إنه يبلغ الثمانين تماما
- إنّه مسنٌ حقاً، إنّه يقارب الثمانين
- إنّه مسنٌ حقاً
وكذلك نجدُ كثيراً من الطلاب يطرحون أسئلةً مثل: "هل سيكون هناك الكثير من الواجيات المنزلية في هذه المادة؟"
"هل سيكون الامتحتان النهائي صعباً؟" ولا يكادون يعبؤون بأنّ "الكثير" و "صعباً" كلماتٌ مبهمة لا تغني ولا تسمن من جوع.

التعابير المبهمة تفيد كثيراً في صناعة الادعاءات المبهمة التي يستحيل إثباتها أو دحضها:
من الأمثلة المألوفة على هذا النوع من الإبهام تنبّؤات المنجّمين. "استعدّ لتغيّر مهمٍ في حياتك هذا الأسبوع! فهنالك حدثٌ جلل يوشك أن يقع" . ويشبه هذا ما نُشر ويُنشر في بعض المطبوعات، مثل "إن هذا الخبر الذي ننفرد به سوف يؤثر على السوق إلى حدٍ ما بطريقة أو أخرى"

وبالطبع فإنه يمكن للمرء استخدام الإبهام لصالحه حتّى يتجنّب الالتزام بتعهدٍ ما أو يمتنع عن البوح الصريح الصحيح بما يفضل كتمانه. مثلاً، نسمع أحد رجالات الدولة يقول "بصفتي الوزير فإنني أقر إلى حدٍ ما بتحمّلي مسؤولياتٍ معيّنةًعمّا حدث" ونجد آخر يقول "سوف تعالج الحكومة القضية الفلانية بالطريقة المناسبة عندما يحين الوقت الملائم"

المعنى غير المكتمل:
نقول عن كلمةٍ أو تعبير إنّ معناه غير مكتمل إن كانت الخاصّية أو العلاقة التي يعبّر عنها تعتمد على بعض المعايير والمتغيّرات الأخرى التي لا تتبيّن إلاّ من خلال السياق صراحةً أو ضمنياً. ومن هذه الكلمات "مفيد، ومهم، ومشابه، وأفضل".

في الواقع إنّ كل الأشياء مفيدة، وهي مهمةّ في بعض السياقات وليس جميعها. مثلاً، هل المحبّة هي الأهمّ أم المال؟ ليس لهذا السؤال إجابة واحدة، بل يعتمد ذلك على كل موقف. فإن كان المرء يتضوّر ويوشك على الهلاك جوعاً يصبح المال هو الأهمّ. وإن كانت المقارنةُ بينَ دور المال ودور المحبة في حصول المرء على حياة سعيدة فالإجابة ستكون مختلفة. وهكذا نرى أن مجرّد القول بأن شيئاً ما مفيد أو مهمٌ لا يكادُ يعني شيئاً ما لم نحدّد يوضوح وجه فائدته او أهميّته. ومطلب التحديد هذا ضروري ايضاً إذا أردنا تقييم صحةِ أو عدم صحة أمر ما. تامّل في الأمثلة التالية:
"سوف يقوم مدير التعليم لدينا بزيارة اسكتلندا لدراسة نظامها التعليمي لأنّه يشبه النظام المطبّق في بلدنا"
" هل سيكون الامتحان النهائي في هذه السنة مشابهاً لامتحان السنة الماضية؟"
" أن تكون جميلاً خير من أن تكون صالحاً، ولكن أن تكون صالحاً خير من أن تكون قبيحاً"
"الفن لا يتطوّر أبداً، مادّة الفن هي التي لا تتكرّر أبداً"

عزيزي القارئ قبل أن نودّعكم على أمل اللقاء بكم في تناول مزالق التشويه، وفراغ المحتوى في لغة الحوار والتفكير، نضع أمامكم التدريبات التالية:

1- هل تستطيع تمييز نواحي الغموض في البيانات التالية؟
- للبيع طاولة سيدة راقية ذات أرجل ضخمة (افترض عدم وجود علامات التشكيل على "ذات"، أو تخيّل المثال باللغة الإنكليزية مثلاً)
- للبيع عشرة جراء مولودة من كلب صيد أسترالي وكلب صيد أمريكي (افترض أنّك تقرأ هذا المثال دون علامات تشكيل على "كلب")
- وضعَ القنبلة على بعد خمسة عشر متراً يمينَ السيارة مقابل المنزل.
- الأب يحبّ سميراً وحساناً والأم تحبّه.
- تناول اللبن والعصير لا يُنصح به بعد الطعام

2- وكيف يمكنك تحسين الوضوح أو الدقة في البيانات التالية؟
- فعلاً، سوف يستغرق إنهاء هذا المشروع وقتاً طويلاً.
- نتوقع أنَّ يحضر الاحتفال عددٌ كبيرٌ من الناس.

إضاءة:
إن من يثبت مزاعمه بالضجيج وبالقسر لا يُثبت غير ضعف منطقه
من أقوال الفيلسوف الفرنسي ميشيل مونتي

lol!